“وداعاً طبريا” ذاكرة نساء فلسطينيات تُثقلها أوجاع الوطن

بين ظلم الماضي والأمل بالمستقبل

فيلم وداعاً طبرية
روي “وداعًا طبريا” رحلة أم فلسطينية وابنتها

على أرض الجليل الشرقي الفلسطيني، تقع طبريا على ضفاف بحيرة وُسِمَت باسمها كجوهرة زرقاء محاطة بتلال متدحرجة. ومع ذلك، في فيلم “وداعًا طبريا” المؤثر للمخرجة لينا سوالم، تحمل هذه المناظر الطبيعية الخلابة سردًا أعمق وقصة محفورة بالشوق والفقد تتردد عبر الأجيال مثل الأمواج على الشاطئ. يتجاوز الفيلم حدود الأفلام الوثائقية، وينسج قصصًا شخصية مع خيوط تاريخية ليصنع نسيجًا غنيًا ومتعدد الطبقات مثل التجربة الفلسطينية ذاتها.

في جوهره، يروي “وداعًا طبريا” رحلة أم وابنتها. تعود هيام عباس، الممثلة الفلسطينية الشهيرة، إلى قرية دير حنا مسقط رأسها والذي اضطُرت إلى تركه بعد النكبة الفلسطينية في عام 1948 لتواجه ذكرياتها المقتلعة. فتستذكر فقدان جدها الأكبر عقله ووفاته تاركًا زوجته أم علي التي تعمل بالخياطة وثمانية أطفال من بينهم والدتها نعمت، وهي معلمة. هيام، إحدى أبناء نعمت العشرة، كانت تشعر دائمًا بالاختناق من حياة القرية، وتمكنت من مغادرة دير حنا للعيش في الخارج في أوائل العشرينات من عمرها. تُشاهد هيام ما تبقى من ذكرياتها، برفقة ابنتها المخرجة لينا سوالم، من خلال لقطات الفيديو التي التقطها والد لينا أثناء زياراته إلى دير حنا عندما كانت طفلة صغيرة.

شاهدي أيضًا: في ظلال بيروت: قصص المعاناة والواقع المرير على أطراف العاصمة الصاخبة

تكشف لينا عن أشباح التهجير القسري التي تلاحق والدتها، حيث ترسم خطواتها خطوط حياة اقتُلعت من جذورها، فنراها تحاول باستمرار إقناع والدتها بأن يكون الفيلم أكثر كشفًا، ولكن والدتها تلجأ أحيانًا إلى القول: “لا تفتحِ البوابة لآلام الماضي”، أو تقترب من الصراخ عليها.

فيلم وداعَا طبربة
ذكريات هيّام عبّاس في مسقط رأسها دير حنا

قصص الأمهات والجدات

يرفض فيلم “وداعًا طبريا” التقيد برواية واحدة. فبينما تتعمق هيام ولينا في تاريخ عائلتهما، يتوسع الفيلم ليشمل مجموعة من الأصوات التي تحكي قصص الأمهات والجدات والعمات والأبناء، وتستذكر كل واحدة منهنّ شظية من ماض ممزق. روت النساء ما يُثقل ذاكرتهنّ من حكايات عن بساتين الزيتون المهجورة والبيوت الخاوية التي تُشكّل بحد ذاتها نسيجًا عائليًا تفتت فجأة، فيمكننا سماع قصة هيام عن خالتها حسنية، الأخت الكبرى لوالدتها، التي انتهى بها الأمر في عام 1948 على الجانب السوري من الحدود، ولم تتمكن من رؤية عائلتها لمدة 30 عامًا، فتصف لقاءهما بعد تلك المدة بقوة المغناطيس، مستندة في وصفها إلى الطريقة التي حضنت فيها الخالة أفراد العائلة وهي تشمّ رائحتهم بشوق.

يكمن سحر عدسة لينا سوالم في نسج هذه الذكريات، فهي تركز على الوجوه التي أضناها الشوق والمحفورة كتاريخ غير مقروء على جدران المنازل التي ملأتها الذكريات. تلتقط تلك العدسة تمايل أوراق شجر الزيتون الذي يمثّل الوجود الأزلي لفلسطين كرثاء صامت على حقول جرداء. تُظهِر لنا العدسة أيضًا جدران المنازل الحجرية، وهي تتردد بأصوات ضحكات الأطفال الذين رحلوا منذ زمن طويل.

إن “وداعًا طبريا” ليس مجرد رثاء لما فُقِد، فهو أيضًا احتفال بالصمود وبالروح التي لا تقهر والتي ترفض الانكسار. وعلى الرغم من أنه بوابة لأوجاع الماضي، إلا أنه رسالة واضحة وواقعية غير درامية إلى العالم عن حقيقة الوجود الفلسطيني، وحبّه الأبدي للحياة، وتعايشه المشترك مع جميع الديانات السماوية. فبين مسيحي ويهودي ومسلم، أعطى هذا النسيج المجتمعي في مدينة طبرية طابع التسامح والتقبل.

“وداعا طبريا” ليس مجرد فيلم، إنما تجربة. إنه يدعونا للسير على طريق المنفى، والشعور برمال التهجير تحت أقدامنا، وسماع همسات الأجيال تتردد في الريح، ويحتم علينا مواجهة ظلم الماضي، بينما يقدم بصيصًا من الأمل لمستقبل حيث تصبح الذاكرة ليست عبئًا، بل جسرًا نحو المحبة والاكتمال.

شاهدي أيضًا: سينما “السعودية الجديدة”.. قصة 16 تجربة تستحق الدعم

منح وجوائز

أُعلنت لينا سوالم عن إخراجها للفيلم الوثائقي الذي يدور حول والدتها هيام عباس في أكتوبر 2020، بعد حصول الفيلم على منح من آرتي ومؤسسة الدوحة للسينما والصندوق العربي للفنون والثقافة، وقالت لينا في مقابلة مع قناة فرانس 24 أنها بدأت في كتابة العمل منذ عام 2018، حيث اعتمدت في كتابة بعض حواراته مع المخرجتين نادين نعوس وجلاديس جوجو.

عُرض الفيلم لأول مرة عالميًا في الدورة الثمانين لمهرجان البندقية السينمائي الدولي في قسم Giornate degli Autori في سبتمبر 2023، كما عُرِض أيضًا في نفس التوقيت بمهرجان تورونتو السينمائي الدولي، ثم عُرِض في مهرجان لندن السينمائي في أكتوبر 2023، حيث حصل على جائزة غريرسون لأفضل فيلم وثائقي، بالإضافة إلى ذلك، أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية ترشيح “وداعاً طبريا” لتمثيل فلسطين رسميًا عن فئة الفيلم الدولي الطويل (الأفلام غير الناطقة بالإنجليزية) لجوائز الأوسكار في دورتها ال96 لعام 2024، في الحفل الذي من المقرر أن يقام في 10 مارس 2024.

فيلم وداعّا طبرية
أعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية ترشيح “وداعًا طبريا”  لتمثيل فلسطين رسميًا عن فئة الفيلم الدولي الطويل
علي يونس
+ posts
© 2024 SOUL ARABIA. ALL RIGHTS RESERVED

Subscribe now to get notified about exclusive offers from Soul Arabia every week!