في ظلال بيروت: قصص المعاناة والواقع المرير على أطراف العاصمة الصاخبة

تهميش وفساد وفقر

في ظلال بيروت.. قصص المهمشين على أطراف العاصمة الصاخبة

لطالما كانت الأفلام الوثائقية هي الملاذ الأخير والفرصة الأكبر لإظهار الواقع بمختلف أشكاله في كل البيئات، وهذا ما فعله فيلم “في ظلال بيروت” الذي أظهرت عدسة كاميرته الوجه الآخر لسويسرا الشرق “بيروت”. هناك على أطراف تلك المدينة الصارخة بالحياة كان اللاجئون الفلسطينيون يصلون إلى حي صبرا وشاتيلا الفقير منذ ما أسمته إسرائيل «حرب الاستقلال» في عام 1948. وبعد مرور ثلاثة عقود قاسية ومريرة، استُهدِف وجودهم بمذبحة أخرى وقعت في منتصف ديسمبر من عام 1982 ، والتي ارتكبتها مجموعات لبنانية، متمثلة بحزب الكتائب اللبناني، بينما وقفت قوات الدفاع الإسرائيلية، التي كانت قد غزت البلاد قبل ثلاثة أشهر متفرجة. مرت أربعة عقود أخرى منذ ذلك الحين، فلم تكن المنطقة مجرد نقطة جذب أخيرة للاجئين متعددي الجنسيات، بل «المكان الأكثر فوضى وفقرًا وقساوة» في المدينة.

هذا التصريح الذي أدلى به أحد السكان هو واحد من العديد من التصريحات التي سمعناها في أول إخراج للمصور السينمائي الأيرلندي ستيفن جيرارد كيلي، «في ظلال بيروت»، والذي شارك في إخراجه مع زميله غاري كين ( مخرح فيلم غزة). وعلى الرغم من كآبة هذا المشهد لأربع عائلات تعيش في معاناة يائسة مع جميع نواحي الحياة، إلا أن عمق الملاحظة الإنسانية والصور الاستثنائية تجعل من هذا الفيلم تجربة جذابة.

شاهدي أيضًا: ملكة الأردن رانيا العبد الله.. صوت الإنسانية والحقيقة في الدفاع عن غزة

انتقل المخرج كيلي إلى بيروت في عام 2015، فتعلم اللغة العربية وأصبح قريبًا من بعض الأشخاص الموجودين في الفيلم، والذين طلبوا منه توثيق حياتهم. لم يظهر كيلي داخل الفيلم الوثائقي أبدًا، وترك هؤلاء الأشخاص يديرون دفة الحديث عن حياتهم كما يحلو لهم. يحتوي الفيلم على لقطات يغلب عليها التعليق الصوتي الذي تصاحبه مشاهد واقعية من الحياة سواء في المنازل أو في الأماكن المزدحمة، حيث يتجمع حوالي 30 ألف شخص في مساحة كيلومتر مربع واحد.

انعدام وسائل الحياة في صبرا وشاتيلا

تهميش ومعاناة

لم تكن تلك المساحة التي تضج بالتهميش المجتمعي منذ فترة طويلة للاجئين فقط، بل أيضاً ضمت مجموعات من الأقليات الأخرى. هناك شيء واحد مشترك بين الجميع وهو أنهم محرومون من خدمات الحكومة المُحاصرة، فالمواطنون الأجانب وحتى أولئك الذين وُلِدوا هناك دون أب لبناني الأصل لا يمكنهم التقدم بطلب للحصول على الجنسية، ناهيك عن أي امتيازات مكتسبة قد تمنحها الدولة. أما بالنسبة للرعاية الصحية والتعليم، فهذه الخدمات بعيدة تمامًا عن متناول معظم الناس، وخاصة الأطفال. تفتقر هذه المخيمات لجميع وسائل النظافة، فلا يوجد حتى آلية لجمع للقمامة، مما يؤدي عادة إلى مشاكل صحية وأمراض كثيرة بسبب بسوء خدمات الصرف الصحي والحشرات، بينما تتفاقم هذه المشاكل نتيجة الفيضانات كلما هطلت أمطار غزيرة.

كما هو الحال مع معظم المدن، تُعد هذه المنطقة الفقيرة مركزاً للسرقة والعنف وتجارة المخدرات والإدمان. أما عن العائلات التي سلّط كيلي الضوء عليها، فهي بعيدة عن مثل هذه المشاكل، ولكنها بالطبع تتأسف على اضطرارها إلى تربية أطفالها في بيئة كهذه. على سبيل المثال، عائلة عبيد وهي من العائلات السورية اللاجئة التي فقد أطفالها السبعة والدهم، بينما تعيش الأم مع أصغر ثلاثة أطفال فقط الآن، وتحرص على حثّهم للعمل من أجل تدبير أمرهم. تعتبر هذه الأم ابنها أبو أحمد بمثابة كنز، فهو طفل ذو شخصية دؤوبة ومبهجة وناضجة تجاه عمله، وذلك على الرغم من عمره الذي لا يزيد عن 10 سنوات.

شاهدي أيضًا: سينما “السعودية الجديدة”.. قصة 16 تجربة تستحق الدعم

هاوية الفقر

من الناحية الأخرى، تدير عائلة كوجيج متجرًا صغيرًا في هذا المكان حيث تشعر الطفلة سناء البالغة من العمر 13 عامًا بالغضب من كونها عالقة فيه، ويخشى والداها من مخاطر الشارع كثيرًا ولا يسمحان لها بالتجول في الخارج. في النهاية، يقبل والدا سناء زواجها من شخص يكبرها سنًا على أمل أن يكون هذا الزواج هو الورقة الرابحة لإخراجها من الأحياء الفقيرة.

أما عن عائلة ضاهر، فهم من الدوم «الغجر» اللبنانيين الذين يكسبون لقمة عيشهم من خلال الحرف التقليدية، وتركز العائلة جهودها لرعاية ساريا الصغيرة، التي تعاني من حالة جلدية مؤلمة في حين أنها تفتقر الأموال اللازمة لعلاجها.

ركّز الفيلم بشكل خاص على عبده زياني، الذي يحاول بدء حياة جديدة مع زوجته وابنه الرضيع بعد أن أمضى بضع سنوات في السجن، لم يتقبّل المجتمع سجل عبده الجنائي، مما منعه من الحصول على أي وظيفة مناسبة، أو رخصة قيادة أو أي وسيلة أخرى لإعالة عائلته.

يُظهِر الفيلم أيضًا موقف الحكومة العدائي والعلني تجاه قاطني هذه المخيمات، حيث يصور الشرطة وهي تهدم الأكشاك باعتبار أنها تنتهك التصاريح_ التي يُمنع أصحابها من التقدم للحصول عليها على أي حال_ تزداد الأمور سوءًا مع انفجار المرفأ الكارثي في آب 2020، وفيروس كورونا، وتصاعد الفساد الحكومي والأزمات الاقتصادية، مما دفع المزيد والمزيد من سكان لبنان إلى هاوية الفقر.

حياة بائسة وواقع مرير

غرباء داخل وطن لم يعد وطنًا

تكثر أسباب الحزن في هذا الفيلم، ولكن ما يلفت النظر حقًا هو المودة التي يمتلكها الأبطال وأملهم المستمر في التحسّن؛ إذ لا يجب أن ننسى أن هذه المنطقة التي أصبحت أكثر اكتظاظًا بالسكان، وأكثر فقرًا ونبذًا وحرمانًا من أولويات الحياة، هي نتاج الحرب والمجزرة التي دارت في نفس المكان قبل عقود قليلة من الزمن.

تطغى على لقطات هذا العمل الصادق، التي أجاد «ستيفن جيرارد كيري» تصويرها وتظليلها بالصدق والتلقائية والقدرة على التقاط التفاصيل الدقيقة من بين جوانب المكان، نغمة حزينة تُظهِر مأساة عيش غرباء داخل وطن لم يعد وطنًا.

رغم أن الفيلم هو قضية إنسانية تخاطب الإنسان في كل مكان، إلا أنه يأتي في وقت مناسب تماما لكي يراه الجمهور في العالم ويتفاعل معه ويتذكر من خلاله المعاناة المتواصلة التي تعيشها الشعوب، وخاصة الشعب الفلسطيني، منذ عشرات السنين وحتى الآن، ومع أنه ليس عملا روائيًا، ولكن يمكن أن نلمس العنصر الدرامي فيه بسهوله من خلال حكايات المهمشين المثيرة للحزن.

علي يونس
+ posts
© 2024 SOUL ARABIA. ALL RIGHTS RESERVED

Subscribe now to get notified about exclusive offers from Soul Arabia every week!